يشهد القارة الأوروبية تحولات عميقة ومقلقة، حيث تتحدث التقارير عن حالة من “التعبئة الصامتة” استعدادًا لمواجهة محتملة مع روسيا. هذه التعبئة لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تمتد لتشمل إعادة إحياء التجنيد الإجباري، وتحديث الملاجئ، وخطط طموحة لنشر القوات العسكرية في شرق القارة. هذه التطورات، على الرغم من عدم وجود إعلانات رسمية صاخبة، تشير بقوة إلى أن أوروبا تستعد لسيناريو أسوأ، وتتخلى عن وهم “نهاية التاريخ” الذي طالما تغنت به. الوضع الأمني المتصاعد والاستعداد للحرب أصبحا واقعًا ملموسًا.

تصاعد التوترات: “التعبئة الصامتة” في أوروبا

وصف الكاتب الإيطالي فابيو لوغانو الوضع الحالي في أوروبا بـ “التعبئة الصامتة”، وهي عبارة دقيقة تعكس حالة الاستعداد المتزايدة دون إثارة الذعر العلني. ففي الوقت الذي يظهر فيه الرأي العام الأوروبي لامبالاة نسبية تجاه هذه التحركات، فإن مراكز صنع القرار في العواصم الأوروبية وداخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) لم تعد تنظر إلى الصراع مع روسيا كفرضية بعيدة الاحتمال، بل كاحتمال يستدعي التخطيط والاستعداد الجادين.

هذا التحول في النظرة يعكس تقييمًا متزايدًا للتهديد الروسي، خاصةً في ظل الحرب المستمرة في أوكرانيا. الخطر لا يكمن فقط في القدرات العسكرية الروسية، بل أيضًا في التصريحات المتكررة من قبل الرئيس بوتين التي تشير إلى استعداد موسكو للرد على أي تهديد يواجهها.

تصريحات القادة: تحذيرات متزايدة من خطر الحرب

الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، أطلق تحذيرًا صارخًا خلال حديثه في ألمانيا، مؤكدًا أن “الحلفاء هم الهدف التالي، وعلينا أن نكون مستعدين لحرب مماثلة لتلك التي شهدها أجدادنا”. هذا التصريح، الذي تجاوز الحديث عن عمليات حفظ السلام أو الصراعات غير المتكافئة، يوضح أن الناتو يرى نفسه أمام احتمال مواجهة حرب واسعة النطاق.

وفي السياق نفسه، صرح وزير القوات المسلحة البريطانية، أليستر كارنز، بأن “ظل الحرب يخيم مجددًا على أوروبا”. ولفت كارنز إلى نقطة حاسمة، وهي أن “الجيوش تدير الأزمات، لكن المجتمعات والاقتصادات هي التي تكسب الحروب”، مشيرًا إلى أن الاستعداد للحرب يتطلب تعبئة شاملة للمجتمع والاقتصاد. هذه التصريحات تؤكد جديّة التهديد الأمني الذي تواجهه أوروبا.

خطوات عملية نحو التعبئة: إعادة التجنيد وتحديث البنية التحتية

لم تقتصر الاستعدادات على التصريحات والتحذيرات، بل اتخذت شكل خطوات عملية ملموسة. فرنسا، على سبيل المثال، اتخذت قرارًا تاريخيًا بإعادة التجنيد الإجباري بعد 29 عامًا من إلغائه، على أن يبدأ التطبيق تدريجيًا اعتبارًا من الصيف المقبل على الفئة العمرية 18 و19 عامًا. الرئيس ماكرون برر هذا القرار بأنه “الطريقة الوحيدة لتفادي الخطر هي الاستعداد له”، ومنح كل مجند جديد مبلغ 800 يورو شهريًا.

ألمانيا، بدورها، بدأت في تسريع وتيرة حسم الملفات المعلقة، وأطلقت عملية تحديث شاملة لقدراتها الدفاعية. فقد صوت البرلمان الألماني على إرسال استبيانات إلزامية إلى كل من يبلغ الـ18 عامًا اعتبارًا من يناير 2026، بهدف تقييم مدى استعدادهم للخدمة العسكرية. وإذا لم تكن الأرقام كافية لتلبية احتياجات التجنيد، فإن خيار التجنيد الإلزامي سيعود إلى الواجهة.

بالإضافة إلى ذلك، أعدت برلين خطة سرية ضخمة، بعنوان “خطة العمليات الألمانية”، تتضمن تفاصيل جمع ونشر 800 ألف جندي من حلف الناتو في ألمانيا، تمهيدًا لنقلهم إلى شرق القارة. تشمل هذه الخطة أيضًا تهيئة البنية التحتية، وتعزيز القدرة المدنية على الصمود، وإعادة تشغيل آلة الحرب بالسرعة المطلوبة.

الإنفاق العسكري المتزايد: تحول في الأولويات الاقتصادية

على الصعيد الاقتصادي، تشهد أوروبا تحولًا جذريًا في موازنات الدول، حيث لم يعد الإنفاق على الدفاع بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي مجرد سقف، بل أصبح حدًا أدنى. هذا التحول يعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية الاستثمار في القدرات العسكرية لضمان الأمن القومي والإقليمي.

ألمانيا أنشأت صندوقًا خاصًا للنفقات العسكرية بقيمة 100 مليار يورو، والذي بدأ بالفعل في صرف الأموال على مشاريع تحديث وتطوير الجيش. بولندا تهدف إلى زيادة إنفاقها العسكري إلى 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وتقوم حاليًا بتدريب جميع الذكور البالغين بهدف رفع قوام الجيش إلى 500 ألف عنصر. دول البلطيق تتطلع إلى رفع إنفاقها العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تسعى السويد وفرنسا للوصول إلى نسبة 3.5%.

الاتحاد الأوروبي أطلق أيضًا خطة “إعادة تسليح أوروبا/الاستعداد لـ2030″، والتي تتضمن حزمة مالية ضخمة تصل إلى 800 مليار يورو، مدعومة بأدوات إقراض بقيمة 150 مليار يورو. هذه المبادرات تعكس التزامًا أوروبيًا قويًا بتعزيز القدرات الدفاعية والاستعداد لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. الاستثمار في القدرات الدفاعية أصبح ضرورة ملحة.

خلاصة: مستقبل أوروبي في ظل الاستعداد للحرب

إن “التعبئة الصامتة” التي تشهدها أوروبا ليست مجرد سلسلة من الإجراءات العسكرية والاقتصادية، بل هي انعكاس لتحول عميق في التفكير الاستراتيجي. فقد أدركت القارة الأوروبية أن السلام الذي شهدته لعقود طويلة لم يعد مضمونًا، وأن التهديد الروسي يتطلب استعدادًا جادًا وشاملاً.

هذا الاستعداد لا يقتصر على الإنفاق العسكري وتجهيز الجيوش، بل يشمل أيضًا بناء التحصينات، وتحديث الملاجئ، وتعزيز القدرة المدنية على الصمود. المستقبل الأوروبي يبدو وكأنه يتجه نحو حالة من الاستعداد الدائم للحرب، وهو سيناريو مقلق ولكنه يبدو حتميًا في ظل الظروف الحالية. هل ستنجح هذه التعبئة في ردع أي عدوان محتمل؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة. شارك برأيك حول هذا الموضوع، وهل تعتقد أن أوروبا تتجه نحو حرب حقيقية؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version