أوكرانيا وأمن أوروبا: رؤى متضاربة حول مسارات السلام والتمويل
يشهد العالم تحولات جيوسياسية عميقة مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وتتزايد المخاوف الأوروبية بشأن مستقبل الأمن القاري. لم يعد الدعم لأوكرانيا بالنسبة للقادة الأوروبيين مجرد مسألة دعم دولة أو التمسك بالقانون الدولي، بل أصبح مرتبطًا بشكل وثيق باستقرار أوروبا وأمنها طويل الأمد. يرتكز هذا القلق على اعتقاد راسخ بأن أي تسوية سلام تمنح روسيا مكاسب كبيرة قد تفتح الباب أمام صراعات أوسع نطاقًا، وتهدد السلم القاري. هذا المقال يتناول التحديات التي تواجه أوروبا في دعم أوكرانيا، والتوترات مع الولايات المتحدة، ومستقبل التمويل الأوروبي، مع التركيز على المخاطر المحتملة لأي اتفاق سلام غير مُرضٍ.
المخاوف الأوروبية من تسوية سريعة للحرب
تخشى العواصم الأوروبية من أن انسحاب روسيا من أي مفاوضات سلام قد يكون مصحوبًا بقوة عسكرية متزايدة، مما يسمح لها بإعادة رسم الحدود بالقوة وتقويض حلف الناتو. هذه السيناريوهات تثير مخاوف اقتصادية كبيرة، حيث قد تضطر الدول الأوروبية إلى زيادة الإنفاق العسكري بشكل كبير لتعزيز دفاعاتها، وهو ما يمثل عبئًا ماليًا هائلاً في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
تتخوف أوروبا من أن تسوية سريعة، كما تسعى إليها إدارة ترامب، قد تعزز “الاستقرار الاستراتيجي” مع روسيا على حساب الأمن الأوروبي. هذا التوجه يثير قلقًا بالغًا، خاصةً مع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي تحذر من استعداد روسيا للحرب في حال سعت أوروبا إلى التصعيد. كما يرى الكرملين أن استراتيجية حلفاء كييف تقوم على “القتال حتى آخر أوكراني”، بدلًا من البحث عن حلول دبلوماسية سريعة.
توترات غربية حول مستقبل أوكرانيا
أظهرت محادثات السلام الأخيرة، التي قادتها واشنطن، توترات واضحة بين المواقف الأوروبية والأمريكية. فقد حذر القادة الأوروبيون الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من تقديم تنازلات كبيرة قبل الحصول على ضمانات قوية بشأن استمرار الدعم الأمريكي في حال انتهاك روسيا لأي اتفاق.
هذا التحذير يعكس قناعة أوروبية عميقة بأن مستقبل أوكرانيا لا يمكن أن يُفصل عن أمن أوروبا. كما عبر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس عن هذا الرأي بوضوح قائلاً: “مستقبل أوكرانيا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمننا.. إذا لم نتمكن من تحقيق سلام دائم وعادل لأوكرانيا، فلن يكون لدينا أي ضمان لأمننا أيضًا”. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكد هذا الموقف، محذرًا من أي صفقة تمنح روسيا حرية التوسع وتهدد أمن القارة.
المخاطر الأمنية المحتملة
أظهرت دراسة حديثة شملت 500 خبير أمني أوروبي أن “وقف إطلاق النار المفضل لروسيا في حربها ضد أوكرانيا” يُعد من أبرز المخاطر التي تواجه الاتحاد الأوروبي في العام المقبل. إلى جانب ذلك، تثير الحروب الهجينة والهجمات الرمادية التي يُزعم أن روسيا تمارسها ضد القارة قلقًا متزايدًا.
الأمين العام للناتو، مارك روته، أوضح السيناريو المحتمل قائلاً: “تخيلوا لو تحقق لبوتين مراده، أوكرانيا تحت الاحتلال الروسي، وقواته تضغط على حدود أطول مع الناتو، وزيادة كبيرة في خطر الهجوم المسلح علينا”. هذا السيناريو يتطلب من الناتو تعزيز وجوده على الحدود الروسية وتكثيف الإنفاق العسكري، وهو ما سيكون “مكلفًا ماليًا للغاية”. ويؤكد روته بشكل قاطع: “أمن أوكرانيا هو أمننا”.
التمويل الأوروبي لأوكرانيا: اختبار حاسم
يواجه الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع اختبارًا حاسمًا في مدى استعداده لتحمل تكاليف استمرار دعم أوكرانيا عسكريًا وماليًا. فقد قام الاتحاد بتجميد الأصول الروسية المحتجزة داخل حدوده، بهدف منع عودتها إلى موسكو إلا إذا وافقت على دفع تعويضات لأوكرانيا.
في المقابل، تسعى إدارة ترامب إلى استخدام هذه الأصول في مشاريع اقتصادية مشتركة مع روسيا، وهو ما يثير اعتراضات أوروبية قوية. ومن المقرر أن يجتمع قادة الاتحاد في بروكسل لتقرير استخدام هذه الأصول لتمويل قرض بقيمة 105 مليارات دولار لأوكرانيا، لتغطية ثلثي ميزانيتها واحتياجاتها العسكرية للعامين المقبلين.
بدون هذا القرض، قد تنفد أموال كييف بحلول الربيع، مما يضعف موقفها التفاوضي بشكل كبير. جانا كوبزوفا، زميلة سياسة أولى في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أوضحت أهمية هذه الأموال، قائلة: “إذا سكتت الأسلحة، ستكون هذه الأموال حاسمة لإعادة بناء الاقتصاد المدمر بسبب الحرب ومعالجة التحديات بعد الصراع.. وإذا رفض بوتين الصفقة واستمر في غزوه، ستساعد هذه الأموال في دعم الدفاع عن النفس لأوكرانيا.”
مستقبل السلام والأمن الأوروبي
بغض النظر عن نتائج محادثات السلام، فإن نشر هذه الأصول المجمدة يمثل استثمارًا استراتيجيًا في أمن أوكرانيا وأمن أوروبا. إن ضمان استقرار أوكرانيا ورفض أي تسوية تمنح روسيا مكاسب غير مبررة أمر ضروري للحفاظ على السلم والأمن في القارة.
الوضع الحالي يتطلب تنسيقًا وثيقًا بين أوروبا والولايات المتحدة، مع إعطاء الأولوية لمصالح الأمن الأوروبي. كما يتطلب دعمًا ماليًا وعسكريًا مستمرًا لأوكرانيا، لتمكينها من الدفاع عن نفسها وتحقيق تسوية سلام عادلة ومستدامة. إن مستقبل أوروبا يعتمد بشكل كبير على مستقبل أوكرانيا، وعلى قدرة القادة الأوروبيين على اتخاذ قرارات حاسمة وشجاعة في مواجهة التحديات الراهنة. الأمن القومي و الاستقرار الإقليمي هما وجهان لعملة واحدة في هذا السياق، و السياسة الخارجية الأوروبية ستكون حاسمة في تحديد مسار الأحداث.



