أثار مقال للمؤرخ والمحامي الفرنسي نيكولا بافريز، نشر في صحيفة لوفيغارو، جدلاً واسعاً حول مستقبل الغرب والنظام الدولي. يرى بافريز أن الخطة الأمريكية للسلام في أوكرانيا، بالإضافة إلى استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، لا تمثل مجرد تغيير في السياسات، بل هي بمثابة نقطة تحول تاريخية تعلن عن نهاية الغرب كما نعرفه. هذا التحول، بحسب تحليله، يفتح الباب أمام صعود قوى أخرى وتشكيل عالم جديد مختلف تماماً.
تحليل بافريز: قطيعة تاريخية في النظام الدولي
يرى بافريز أن العالم يشهد تفككاً للنسق الغربي الذي هيمن على الساحة الدولية منذ القرن الخامس عشر. هذا التفكك ليس مجرد تراجع في النفوذ، بل هو انهيار للتوازن الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. ويؤكد أن السياسات الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب كانت بمثابة المحفز الرئيسي لهذا التحول.
دور ترامب في تسريع التغيير
يشير الكاتب إلى أن مواقف ترامب تجاه الحرب في أوكرانيا، وتقاربه مع روسيا، وتراجعه عن الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا، حققت ما كان يحلم به جوزيف ستالين والقوى الاستبدادية الأخرى. فقد عملت هذه السياسات على إضعاف الغرب من الداخل وتقويض وحدته. لم يكن هذا التوجه مفاجئاً، بل هو استمرار لاتجاهات بدأت تظهر في العقود الأخيرة، حتى في ظل الخطاب المتفائل حول “نهاية التاريخ” وانتصار اقتصاد السوق.
أفول الغرب: نظرة تاريخية ومقارنة
فكرة أفول الغرب ليست وليدة اليوم، فقد طرحها الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر بعد الحرب العالمية الأولى. لكن الغرب تمكن من إعادة بناء نفسه بفضل الدور الأمريكي المحوري في هزيمة الأنظمة الشمولية وإعادة إعمار أوروبا وترسيخ الديمقراطية الليبرالية.
التحول من الصعود إلى التراجع
ومع ذلك، يرى بافريز أن هذا المسار انعكس في العقود الأخيرة. فقد دخل الغرب في مرحلة تفكك سياسي واقتصادي واستراتيجي، مصحوبة بتراجع وزنه الديموغرافي والاقتصادي العالمي، وظهور قوى آسيوية صاعدة مثل الصين والهند. هذا الصعود الآسيوي، بالإضافة إلى السياسات الغربية الخاطئة، ساهم في خلق عالم أكثر خضوعاً للأنظمة الاستبدادية التي تسيطر على غالبية سكان العالم وجزء كبير من اقتصاده.
صعود الاستبداد وتراجع القواعد الدولية
يشير بافريز إلى أن هذه الأنظمة تسعى إلى فرض نظام دولي جديد يقوم على مبدأ مناطق النفوذ والقوة، بدلاً من القواعد والمؤسسات الدولية. هذا التحول يمثل تهديداً حقيقياً للقيم الليبرالية والديمقراطية التي تأسس عليها الغرب.
أزمة الديمقراطيات الغربية
ويؤكد أن المسؤولية عن هذا الوضع لا تقع على عاتق صعود الأنظمة الاستبدادية فحسب، بل أيضاً على أزمات الديمقراطيات الغربية نفسها. فقد فشلت هذه الديمقراطيات في تثبيت نظام دولي مستقر بعد عام 1989، وانزلقت في أوهام نهاية الصراعات الكبرى، بينما كانت تعاني في الداخل من تآكل الطبقات الوسطى وتراجع النمو وصعود الشعبوية.
أوروبا على مفترق طرق: بين التبعية والاستقلال
في هذا السياق، يرى بافريز أن أوروبا تواجه لحظة مصيرية. فقد لم يعد بإمكانها الاعتماد على المظلة الأمريكية، وبالتالي عليها أن تختار بين خيارين: إما أن تقبل بالتبعية والتفكك في إطار صفقة كبرى بين القوى العظمى، وإما أن تعيد بناء نفسها كقوة ذات سيادة قادرة على الدفاع عن أمنها ومصالحها في عالم مضطرب.
أولويات أوروبا في مواجهة التحديات
ويحدد الكاتب ثلاثة أولويات أساسية للخيار الثاني: دعم أوكرانيا عسكرياً ومالياً بشكل واسع، وتسريع إعادة تسليح أوروبا من خلال تنسيق تقوده الدول الكبرى، وتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية من خلال إصلاحات عميقة. ويرى أن أوروبا لم تعد شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، بل تحولت إلى خصم ضعيف، في الوقت الذي يتم فيه التعامل مع الصين وروسيا بمنطق تقاسم النفوذ.
استعادة دور أوروبا: فرصة تاريخية
على الرغم من نظرته المتشائمة، يختتم بافريز مقاله بالإشارة إلى أن أوروبا ما زالت تملك فرصة تاريخية لاستعادة دورها. لكن هذه الفرصة تتطلب منها أن تعيد الاعتبار لقيم الحرية والعقل التي شكلت أساس نهضتها وحضارتها. إن مستقبل أوروبا، وبالتالي مستقبل الغرب، يعتمد على قدرتها على مواجهة هذه التحديات وإعادة بناء نفسها كقوة مستقلة ومؤثرة في النظام الدولي الجديد. هذا يتطلب رؤية واضحة وشجاعة سياسية والتزاماً حقيقياً بالقيم الديمقراطية الليبرالية. فهل ستستغل أوروبا هذه الفرصة أم ستستسلم لمصير التبعية والتفكك؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه بافريز، والذي سيحدد ملامح العالم في السنوات القادمة.


